إن كل نشوة كحولية تكلفنا 10.000 خلية دماغية“ هكذا يقول التحذير الشائع. وإنه من غير الممكن أن نشعر بصدق هذا التحذير، مثلما نشعر به في اليوم التالي من خلال آثار نفسية وجسدية. ولكن مامدى صحة هذا التحذير؟
من المؤكد أن الكحول لا يجعل شاربه أكثر ذكاءً. وهذا أمر يدركه كل شخص حاول في إحدى المرات التركيز في حديث جدي بعد شربه للكحول. ويعرفه كل شخص ثملٍ حاول بعد عودته إلى المنزل إدخال المفتاح في ثقب الباب، فوجد صعوبة في ذلك. أو كل شخص استيقظ في صباح اليوم التالي واحساس غامض بالخوف يجتاحه خشية أن يكون قد أفضى بالكثير من أسراره في الليلة السابقة.
الجيد في الأمر أن الكحول يختفي من الجسم، لكن بعض آثاره تبقى كالصداع وتهيج غشاء المعدة، فيما يسترجع الشخص القدرة على النطق والتوازن والتركيز والحركة الدقيقة. كما أن الدماغ الذي عاش التجربة وحلل كل ماسبق يستعيد قواه بشكل سريع أيضاً.. ولكن هل يخسر في المقابل آلافا من خلاياه العصبية؟!
من الوهلة الأولى يبدو الأمر معقولاً: فمع وجود ما يفوق الـ100 مليار خلية عصبة في الدماغ، يزداد احتمال أن تسوء حالة الدماغ بعد كل نشوة دون أن ننتبه لذلك. بالإضافة الى أن العلماء قد لاحظوا أن مادة الدماغ تتضاءل عند مدمني الكحول!
لكن بالرغم من ذلك يدرك العلماء حاليا أن الكحول ليس عدوا للخلايا العصبية كما يشاع عنه. فبدلاً من أن يقتلها، يعيق الكحول بشكل خاص اتصالها ببعضها.
تدريجياً في الرأس
سواءً كان تفكيرا أو حركة أو حتى فقط تنفس—لا شيء يعمل في رأسنا دون ألعاب نارية، تقفز فيها النبضات الكهربية من عصب لعصبٍ آخر. وما أن تتلامس أيادي الراقصين لبعضهما البعض حتى يبدأ تفاعل تسلسلي: تقوم الخلايا العصبية في اليد بتنشيط نظيراتها المجاورة لها وتستمر هذه العملية إلى حين وصول المعلومات المتلقاة عبر العمود الفقري إلى الدماغ. بعدها نشعر باللمس، فتلحقه استجابة سريعة بانطلاق نبضات الخلايا من الدماغ باتجاه اليد، هذه المرة إلى الجهاز العضلي. فهل يمسك باليد أم يبعدها؟ الألعاب النارية في رأسنا هي المقرر النهائي.
ليعمل هذا النظام على أكمل وجه؛ تقوم كل خلية عصبية في المتوسط بإنشاء إتصال مع آلاف الخلايا العصبية الأخرى. تستخدم الخلية عدداً من الوسائط الكيميائية كوسيلة إتصال، وترسلها لاحقاً لجاراتها عبر شقّ دقيق. الجزء الأهم هنا هو دعوة الكحول للمشاركة في اللعبة والتي تعمل على نوعين من الوسائط الكيميائية: المثبطة والمنشِّطة. عندما يتدخل الكحول في هذه المعادلة يدفع الخلايا لإفراز كميات أكبر من الوسائط الكيميائية المثبطة بدلاً من المنشِّطة، فيقوم بإبطاء التفاعل التسلسلي بين الخلايا العصبية.
وبالتالي فان إشعارات العينين والأذنين لا تصل للإدراك بسهولة، والأوامر الدماغية تصل متأخرة إلى الجهاز العضلي، ولذلك فنحن نترنح ونفكر بشكل أبطأ ونرى بوضوح أقل ولا نستطيع شبكَ إتصالات عصبية لحفظ ذكرياتنا الجديدة.
متناولو الكحول المعتدلين: ”امتلاك أداء دماغي جيد؛ أفضل من الامتناع كلياً عن تناول الكحول“
يمكن أن تفسر المقولة السابقة آلية إزالة التثبيط النفسي (أي التجاوز المنهجي لأعراض الخوف، الخجل ..إلخ) عبر تناول الكحول.
”إن المنطقة الأولى التي يصل إليها تأثير الكحول، حتى لو كان بكمية قليلة، هي مركز ضبط النفس في الدماغ“ وفقاً للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم The American Association for the Advancement of Science.
فالأشخاص المعنيون يصبحون أكثر انفتاحاً وأكثر قابلية للتحدث عندما يصل تأثير الكحول الى المناطق الدماغية المسؤولة عن الذكريات والحركة ونمط وسلوك النوم.
بعد أن يختفي الكحول من الجسم تستعيد الخلايا العصبية سيادتها على آلية التواصل فيما بينها من جديد. فالاثار المتبقية لا تمنعها من أداء هذه الوظيفة وهذا ما أكدته دراسات لأداء الدماغ عند متناولي الكحول المعتدلين وعند غير المتناولين له، إضافةً لبعض التجارب على الحيوانات.
في دراسة بريطانية تحت اسم وايت هول Whitehall II ضمت اكثر من 5000 مشارك، تبين أن الأشخاص الذين استهلكوا كمية تصل الى 30 مشروب أسبوعيا، تفوقوا على غير متناولي الكحول في اختبارات التفكير.
النتيجة لا تعني أبداً أن الكحول من الممكن أن يجعل شاربه أكثر ذكاءً—فعكس ذلك يوجد عادة سبب يجعل الأشخاص يتخلون عن شرب الكحول، مثلاً كالإصابة بحالة مرضية ما—ولكن ما يدعم نتائج الاختبارات هو أن الأعصاب عادت لتعمل تماماً كما في السابق بعد اختفاء شعور النشوة.
احدى البوابات الالكترونية في جامعة كامبريدج والمسماة بـThe Naked Scientists تذهب الى حد أبعد، لتصرح بأن الأشخاص الثملين معرضون لإلحاق أدمغتهم بأذى أكبر في حال سقوطهم على الرأس، أو عند وقوعهم في إحدى المشاجرات.
لماذا ينكمش الدماغ رغم ذلك عند مدمني الكحول؟
إن تناول الكحول على المدى الطويل يلحق ضرراً بالكثير من أعضاء الجسم، وفي نهاية المطاف بالدماغ أيضاً. السبب وراء هذا الأمر يعود إلى النتائج غير المباشرة للكحول. فمتلازمة فيرنيكيه كورساكوف Wernicke–Korsakoff syndrome (خلل دماغي) التي تصيب بشكل خاص مدمني الكحول المزمنين، تجعلهم مضطربين لدرجة أنهم لا يستطيعون إيجاد مخرج إحدى الغرف، والعامل الرئيسي المسبب لهذه المتلازمة هو النقص الحاد في فيتامين B1.
حتى عن طريق الكبد المتضرر، يستطيع الكحول إلحاق الأذى بالدماغ بشكل غير مباشر. فالشخص الذي يتناول الكحول بكمية كبيرة يصاب بالتهاب في الكبد—مركز إزالة السموم في الجسم. ومن الممكن أن تسيل النشادر بكمية كبيرة في المجاري الدموية لتقوم بسد الخلايا العصبية بشكل مباشر.
وإلى جانب السببين المذكورين أعلاه، نجد الكثير من الأسباب الأخرى التي تدعو إلى ضرورة تناول الكحول باعتدال—حتى وإن استطاعت الخلايا العصبية تحمل كميات أكبر منه.
يجب في الاخير الإشارة إلى أن كل النتائج السابقة تم استخلاصها من دراسات تمت على اجسام اشخاص البالغين. فالدماغ الذي مازال في مرحلة البناء يستجيب بحساسية أكبر للكحول. لذلك يتوجب أن تكون كل أنواع المشروبات الكحولية بعيدة عن متناول الحوامل والأطفال واليافعين.
وفي الختام نستخلص أن الكحول لا يقتل الخلايا الدماغية، وإنما يعيق أتصالها مع بعضها ولذلك يكبح قدرتنا التفكيرية، لكن فقط في وقت الثمالة. على الرغم من ذلك لا يوجد هنالك سبب لتناوله حد الثمالة. فعلى المدى الطويل يلحق الكحول ضرراً غير مباشر بالدماغ، مثلاً عن طريق إيذاء الكبد أو النقص الحاد في فيتامين B1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق